تيمور في الهند

شهدت الهند قبل ذلك عدة غارات من المغول، كان سلاطين المماليك يتولون ردها ودفع اخطارها عن البلاد، فلم يتمكنوا من اقامة حكم فيها، وكانوا يخرجون من وسط اسيا كالجراد المنتشر لايبقي ولا يذر، وكأنهم كانوا في سجن فانطلقوا منه، وكان بهم سعارا إلى الدم والتدمير والتخريب، كانوا من عباد الاوثان وقوي الطبيعة، وامتازوا بالقوة والشجاعة، وعدم المبالاة بما اعتاد الناس أن يتحرزوا عنه، كل همهم السلب والنهب والحصول على الغنائم، وانحدروا من وسط اسيا إلى البلاد الإسلامية فدمروها، واتوا علي حضارتها كأن لم تغن بالأمس..

وكتب التاريخ كثيرا ما تذكرهم باسم التتار، ولكن كتب التاريخ في الهند تذكرهم باسم المغول، وهو اقرب ما يكون في الحقيقة.

والمغول والتتار كلاهما من أتراك وسط اسيا، وكانا أبناء عم، مثل ربيعه ومضر في جزيرة العرب، فالمغول ينتسبون إلى مغل خان، والتتار ينتسبون إلى أخيه تتر خان وقد وقعت حروب كثيرة بين أبناء العم،فكلاهما يتغلب احداهما على الآخر ويحكمه، وظلوا في اراضيهم لا يتعدونها، حتي وقع خلاف بين ملكها جنكيز خان وبين خوارزم شاه، وكان جنكيز من المغول، فزحف بجيش جرار مكتسحا في طريقه بخاري وسمرقند منكلا باهلهما،
ولم يستطع خوارزم شاه أن يقف في طريقه أو يقابله وجها لوجه، حتي استطاع أن يصل إلى حدود العراق، وتم له ذلك في سنة617/1220.

وفي عهد حفيده هولاكو تم للمغول الاستيلاء على بغداد عام1258/656، وقضوا على الخلافه والحضارة العباسية بها،.كما زحفوا علي البلاد الإسلامية الأخرى، حتي بلغوا الشام وقصدوا مصر، ولكن ملكهم المظفر سيف الدين قطز وحد كلمة المسلمين فى مصر، والتقي بالمغول الزاحفين في عين جالوت،ثم في بيسان، وانتصر عليهم بعد معارك عنيفه وردهم عن مصر، وقضي علي خطرهم الزاحف الكاسح، حتي اخرجهم من الشام كلها بمساعدة ركن الدين بيبرس البندقداري، وفي الوقت الذي تم فيه للمغول السيطرة على البلاد الإسلامية بهذه الطريقة،لم يستطيعوا دخول الهند كما عجزوا عن دخول مصر، فظلت الدولة الإسلامية في كل منهما قائمة تحت سلطان دولة المماليك تصد غاراتهم، وتحول بينهم وبين دخول البلاد، وكان سلطان الهند في وقت سقوط بغداد هو ناصر الدين محمود بن التمش، فكانت دلهي في عهده وعهد خلفه السلطان غياث الدين بلبن ملجأ وملاذ للامراء والأعيان الفارين من وجه المغول في بغداد وغيرها من البلاد الإسلامية التي اجتاحوها، ووجد هؤلاء الفارين من سلاطين دلهي كل اكرام واعزاز، كما سبق أن أشرنا إليه في فترة غياث الدين بلبن.

وكان المغول يعبدون قوى الطبيعة، فلما اختلطوا بالمسلمين في البلاد التي غزوها بدأوا يعرفون الإسلام ويعتنقونه ويتحمسون له، وبذلك دخل في الإسلام عنصر قوي،ودم جديد متحمس، سواء في ذلك المغول المقيمون في الهند وغيرها من البلاد الإسلامية، أو المغول المقيمون في بلادهم بعد احتكاكهم مع المسلمين..

وكان تيمور من هؤلاء المغول المسلمين،اهلته جراءته واقدامه إلى الاستيلاء على سمرقند وما وراء النهر وتركستان وخوارزم وكاشغر وبلوخستان وخراسان والعراق وغيرها من البلاد الإسلامية متخذا سمرقند عاصمة له، وكان يتصل من جهة أمه بالقائدين السابقين العظيمين جنكيزخان وحفيده هولاكو ولكن كما يقول المؤرخ الهندي سيد هاشمي:
لم يكن من المغول المتوحشين الذين جاءوا إلى الهند في عهد المماليك في جيش غير منظم وغير مهذب، بل كان جيشه منظما تحت قيادة علمية حكيمة..

ولقد استطاع تيمور أن يستولى على كل البلاد الإسلامية حتي بلغ الشام،وطلب من سلطان مصر التسليم وكان يومئذ السلطان برقوق فأبى واستعد للحرب، ولكنه مات، فقام خلفه ابنه السلطان فرج لقتاله حتي هزمه قرب دمشق، واضطر تيمور إلى طلب الصلح فأجابه، ولكن الفتنة التى قامت في جيش المماليك جعلت السلطان يترك الشام ويعود إلى بلاده، مما اتاح لتيمور لدخول دمشق وتخريبها
803/1400 ولكنه لم يستطع الزحف إلى مصر..

قبل ذلك كان تيمور قد اغوته الهند كما اغوت سابقيه، وشجعه علي ذلك اضطراب الحكم فيها،وقيام الفتن والثورات الداخلية وضعف السلاطين المسلمين، علي أنه مع ذلك صبغ هجومه عليها صبغه دينية إسلامية، حيث رأيناه يعلن بأن هجومه لمحض الرغبه في محاربة الكفار، ونشر الدين الحق طبقا لما جاءت به تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم،ولتطهير البلاد من رجس الكفار، وتحطيم اصنامهم وهدم معابدهم، ولكي نصير غزاة مجاهدين وقادة لجيوش المؤمنين.

وقد اجتاح تيمور البنجاب، ونراه في هجومه يحرص على أن يظهر بمظهر المسلم الغيور، فيزور قبر الشيخ فريد الدين شكر كينج، كما نراه ينتقم لاحد المسلمين الذي قتله الهندوس مع خمسمائة كانوا معه، فيقتل لهم ألفا من الهندوس، ولما حاصر احدي قلاع الأمراء الهندوس رائي جندل وانتصر عليه، طلب منه العفو فلم يقبل، فأرسل إليه الراجا الهندوسي رجلا شريفا من السادات، فقبل تيمور وساطته، وعفا عن الراجا.

وأقدم تيمور الى دلهي، ومعه غنائمه واسلابه، وحينما وصل قريبا إلى دلهي كان معه نحو مائه ألف من الأسرى الهندوس، فقال له إحدى امرائه اننا نخشي اذا تلاقينا مع جيوش دلهي، أن ينتهز هؤلاء الفرصة، ويكونوا حربا علنيا، لاسيما إذا لم نحرز النجاح في هجومنا،فأمر تيمور أن يقتل جميع الأسرى الذي يزيد عمرهم عن خمسة عشرة عاما، أما الصغار فيظلون عبيدا في صفوف الجيش، فكانت مجزرة رهيبة، ثم لم يجد عناء كبير في الاستيلاء علي دلهي، وفر السلطان محمود ووزيره اقبال خان الى كجرات ثم إلى مالوا، تاركين العاصمة له عام801/1398،وحين تم له ذلك صلي ركعتين بجوار قبر فيروز شاه شكرا لله، وأقام في ميدان المصلى، فحضر إليه الإشراف والمشايخ، فاكرمهم واجابهم إلى ملتمسهم أن تسلم بلدتهم من السلب والنهب، ولكن المدينة تعرضت مع ذلك لاقسي غارات النهب والتخريب، وحملات القتل والتدمير، ولم يسلم منها إلا حي الإشراف والسادات احتراما لمركزهم الدينى..

ويفسر المؤرخون ما حصل لدلهي بأن الجنود انتشروا في البلاد يبحثون عن المجرمين المختفين،
فادى ذلك إلى حوادث صغيرة بينهم وبين الأهالي، كانت سببا في ثورة الجند وقسوتهم علي الأهالي في السلب والنهب والقتل، وكان امراؤهم يحاولون ايقاف ثورتهم، لكنهم لم يستمعوا، وكان تيمور في ذلك الوقت محتجبا في قصره عدة أيام،فلم يسمع شيئا من ذلك، ولم يستطع أحد إبلاغه ما حدث، وأنا استبعد هذا التعليل الذي يحاول به المؤرخ تبرئه تيمور من نقضه لعهده، لأنه من البعيد جدا أن يحدث مثل هذا في دلهي، ولا يعرفه تيمور،ومن البعيد أن يظل في قصره جاهلا بما يجري حوله، وهو القائد الفاتح المحارب الذي يعرف ما يجب على القائد من اطلاعه ووقوفه على الأمور أولا بأول..

وهناك مؤرخون آخرون يعللون هذا تعليلا أقرب ما يكون إلى القبول فيقولون:ان الجنود انطلقوا في البلاد يحصلون الأموال التى فرضت على الناس، ولكن الأهالي لم يستجيبوا لهم،وكان في الجنود غرور وقسوة، كما عادة الغزاة المنتصرين،ولاسيما إذا كانوا من جنود المغل، فادى ذلك إلى احتكاك بينهم وبين الأهالي قتل بسببه بعض الجنود، فبلغ ذلك الأمر إلى تيمور فاستشاط غضبا، فأمر بحملة القتل والتاديب لهؤلاء المتمردين، فاعمل الجنود قسوتهم مع الأهالي جميعا سواء مسلمين أو هندوس، ولم ينج من انتقامهم إلا الإشراف والسادات والحي الذي يسكنون به..

وقد مكث تيمور في دلهي خمسه عشر يوما، كانت في الواقع اقسي أيام عرفتها، ثم تركها بعد ذلك تعانى الأم القتل والتدمير والفقر، ولم يترك إلا حامية صغيرة للاشراف والسادات، وسار متجها إلى البنجاب، فمن قدم إليه الهدايا والخضوع قبل منه ذلك، ومن أظهر العصيان لقي جزاءه، وتعرضت بلاده للتدمير، حتي خرج من الهند، دون أن يحكمها كما كان يعلن،.حاملا معه الاسلاب والغنائم من الذهب والفضه والمجوهرات،متجها إلى البلاد الإسلامية في الغرب واخيرا توفي عام807/1404 ودفن في سمرقند، وقد كان تيمور محبا للفنون، اعجبته مباني مسجد محمد بن طغبق وغيره، واحب أن يقبم مثلها في عاصمته سمرقند، فجمع اساطين الفن والعمارة من دلهي وارسلهم إليها..

وبخروج تيمور من دلهي والهند أتيح للسلطان محمود ووزيرة اقبال الفارين من وجهه قبل ذلك أن يرجعا إلى عرش المملكة، ولكن اية سلطنه كانت؟!

لقد كانت سلطنه اسمية ليس لها نفوذ حقيقي،فقد ضاعت هيبتها، واتيح لكل من له غرض او شهوة في الحكم أو نفوذ أو التمرد أن يعلن ما يريد، ولم يمكث محمود طويلا حتي فقد وزيره اقبال في البنجاب،
ثم مكة بعده اثنتي عشرة عاما، حيث توفي في ذي القعدة815/1412 بعد أن ظل علي العرش ما يقرب من العشرين عاما، ملئت كلها بالأحداث والفتن كما رأينا، وبموته انتهت أسرة طغلق الحاكمة، وحاول دولت خان لودي أن يحكم خلسا له، ولكن خضر خان،
وكان حاكم لاهور زحف الى دلهي واستولي عليها، وقبض على دولت خان وسجنه حتي مات في سجنه، بعد أن حكم سنة وثلاثة أشهر، واستولي خضر خان علي الحكم في ربيع الأول817/1414.
وبه بدا حكم السادات في دلهي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الجراد_القاتل_التتار الجزء الثالث

أهم صفات الخوارج التي ذكرها النبي ﷺ

حصار عكا 1799