التتار من البداية إلى عين جالوت


بغداد تحت الحصار

بينما المسلمون على حالتهم من ضعفٍ وهوان إذ ظهر فجأة جيش هولاكو قبالة الأسوار الشرقية للمدينة العظيمة بغداد، وكان ذلك في يوم 12 من المحرم من سنة 656 هجرية.. وبدأ هولاكو في نصب معدات الحصار الثقيلة حول المدينة، وجاء كذلك «كتبغا» بالجناح الأيسر من الجيش ليحيط بالمدينة من الناحية الجنوبية الشرقية[1].

وارتاع خليفة المسلمين.. وعقد اجتماعًا عاجلاً طارئًا، جمع فيه كبار مستشاريه، وعلى رأسهم بالطبع الوزير الخائن مؤيد الدين العلقمي!

ماذا نفعل في هذه المصيبة؟ كيف النجاة؟ أين المهرب؟

{فَنَادَوْا وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ}[ص: 3].

وبطبيعة الحال فإن مؤيد الدين العلقمي وبطانته كانوا يُؤيدون مهادنة التتار وإقامة «مباحثات سلام» معهم، ولا مانع من بعض التنازلات، أو كثير من التنازلات، وكان مؤيد الدين يوسع الفجوة جدًّا بين إمكانيات التتار وإمكانيات المسلمين، كي لا يبقى هناك أمل في المقاومة.

كان هذا هو الرأي السائد في الاجتماع.. السلام غير المشروط!

لكن الخير لا ينعدم في هذه الأمة.

لقد قام رجلان من الوزراء وأشارا على الخليفة بحتمية الجهاد؛ والجهاد كلمة جديدة على هذا الجيل من أجيال الدولة العباسية؛ لكن لا مانع من طرح كل الأفكار وإن كانت «غريبة»! قام «مجاهد الدين أيبك» و«سليمان شاه» يحضَّان على المقاومة، نعم جاءت الإشارة متأخِّرة، بل متأخرة جدًّا؛ لأن زمن الإعداد انتهى منذ فترة، وحان وقت الاختبار، ولكن لعلهما كانا يُشيران منذ زمن بأمر الجهاد ولا يسمع لهما أحد.. وذلك مع العلم أن العلاقات كانت متوترة جدًّا بين مؤيد الدين العلقمي ومجاهد الدين أيبك، وذلك منذ زمن طويل.. ولا بُدَّ للعلاقات بين رجل خائن ورجل أمين أن تتوتَّر.. لكن -للأسف- لطالما استمع الخليفة لكلام الخائنين!

واحتار الخليفة!

هواه مع كلام مؤيد الدين العلقمي.. فقلبه لا يقوى على الحروب.

وعقله مع كلام مجاهد الدين أيبك؛ لأن تاريخ التتار لا يشير بأي فرصة للسلام، كما أنه كان يسمع أن الحقوق لا «توهب» وإنما «تؤخذ».

احتار الخليفة، ثم استقرَّ أخيرًا.. لقد استمع -والحمد لله- إلى كلام العقل؛ لقد قرَّر أن يجاهد.. لكنه متردد.. ضعيف.. لين.. هين! والجهاد لا ينفع مع هذه الصفات.

الجهاد ليس قرارًا عشوائيًّا.. لا يوجد مجاهد «مصَادفَة»!

الجهاد إعداد.. وتربية.. وتضحية.. ومشوار طويل في طريق الإيمان.

الجهاد ارتقاء إلى أعلى.. إلى أعلى.. إلى أعلى.. إلى أن تصل إلى ذروة سنام الإسلام؛ ولكن على كل حال «فلنجاهد» (على سبيل التجربة!) وسمح الخليفة -للمرة الأولى تقريبًا في حياته- باستخدام الجيش!

وخرجت فرقة هزيلة من الجيش العباسي يقودها «مجاهد الدين أيبك» لتلاقي جيش هولاكو المهول، وبمجرد خروج الجيش العباسي واستعداده لملاقاة هولاكو جاءت الأخبار إلى «مجاهد الدين أيبك» أن هناك جيشًا تتريًّا آخر يأتي من جهة الشمال، وهو جيش «بيجو» القادم من أوربا عبر أراضي تركيا وشمال العراق، وكان ذلك الجيش قد عبر الأراضي العراقية شرق نهر دجلة، حتى إذا وصل إلى الموصل عبر نهر دجلة إلى الناحية الغربية منه، وسار في الأراضي المحصورة بين نهري دجلة والفرات حتى اقترب من بغداد، وأصبح على بعد خمسين كيلو مترًا فقط منها، وعند هذه المنطقة في شمال بغداد وصلت الأخبار إلى «مجاهد الدين أيبك».

أدرك «مجاهد الدين أيبك» أن هذا الجيش لو وصل إلى بغداد فسوف يُطَوِّقها من الناحية الشمالية والغربية، وبذلك سيطبق الحصار تمامًا على العاصمة الإسلامية، ومن هنا فكر «مجاهد الدين أيبك» بسرعة أن يتجه بجيشه شمالاً بين نهري دجلة والفرات لمقابلة جيش «بيجو»، والتقى فعلاً بجيش التتار عند منطقة «الأنبار»، وهي المنطقة التي شهدت انتصارًا خالدًا قبل ذلك بأكثر من ستمائة سنة على يد البطل الخالد «خالد بن الوليد» رضي الله عنه، ولكن في هذه المرَّة -للأسف- لم يكن الانتصار حليف المسلمين؛ لقد بدا «بيجو» وكأنه أعرف بالمنطقة من أهلها، فبدأ يُظهر الانسحاب، ويستدرج خلفه جيش المسلمين، حتى أتى به إلى منطقة مستنقعات قريبة من نهر الفرات، ثم أرسل المهندسين التتر لقطع السدود المقامة على نهر الفرات في هذه المنطقة؛ وذلك ليقطع خط الهروب على الجيش العباسي، ثم حاصر «بيجو» الجيش العراقي، وبدأ في عملية إبادة واسعة النطاق، واستطاع «مجاهد الدين أيبك» بفرقة صغيرة جدًّا من الجيش العباسي أن ينسحب بحذاء النهر جنوبًا حتى عاد إلى بغداد، ولكن -للأسف- هلك معظم الجيش العباسي في منطقة الأنبار[2]!

تمت هذه الموقعة الأليمة غير المتكافئة في التاسع عشر من المحرم، أي بعد أسبوع من ظهور هولاكو أمام الأسوار الشرقية لبغداد، وتقدم «بيجو» مباشرة ولم يُضَيِّع وقتًا؛ حتى وصل إلى بغداد من ناحيتها الشمالية في اليوم التالي مباشرة، ثم التفَّ حول بغداد ليضرب عليها الحصار من جهتها الغربية، وبذلك وضعت بغداد بين فكي كماشة: «هولاكو» من الشرق، و«بيجو» من الغرب.. وازدادت حراجة الموقف جدًّا، واستحكم الحصار حول عاصمة الخلافة!

والخليفة -ابن الخلفاء والسلاطين- ما تخيَّل أنه يُحصر هذا الحصار أبدًا.. وشُلَّ عقله تمامًا عن التفكير!

وجاء مؤيد الدين العلقمي ليستغل الفرصة..

أيها الخليفة.. لا بُدَّ أن نجلس مع التتار على «طاولة المفاوضات».

ولكن الخليفة يُدرك أنه إذا جلس قويٌّ شديدُ القوَّة مع ضعيف شديد الضعف فإن هذا لا يعني «مفاوضات» أبدًا، وإنما يعني «استسلامًا».. وفي الاستسلام عادة يقبل المهزوم بشروط المنتصر دون تعديل أو اعتراض.

ومع ذلك وافق الخليفة المسكين -وهو مطأطئ الرأس- على الاستسلام.. أقصد على «المفاوضات!».

وقرَّر أن يرسل رجلين ليقوما عنه بالمفاوضات.. فمن أرسل؟!

لقد أرسل «مؤيد الدين العلقمي الشيعي»، الذي يكن في قلبه كل الحقد للخلافة العباسية[3]!

وأرسل معه «ماكيكا..» البطريرك النصراني في بغداد[4]!

وهكذا؛ فالوفد الرسمي الممثل للخلافة «الإسلامية» العباسية العريقة في المفاوضات مع التتار لا يضمُّ إلا رجلين فقط:

أحدهما شيعي والآخر نصراني!

ولا تعليق!

ودارت المفاوضات السرية جدًّا بين هولاكو وبين ممثلي الخلافة العباسية، وأُعطيت الوعود الفخمة من هولاكو لكليهما إن ساعداه على إسقاط بغداد، وأهم هذه الوعود أنهما سيكونان أعضاء في «مجلس الحكم» الجديد، والذي سيحكم العراق بعد احتلالها من التتار.. أقصد بعد «تحريرها» من الخليفة!

وبالطبع كان ردُّ فعل ممثلي الخلافة العباسية معروفًا.

إن كليهما يتحرَّق شوقًا لإسقاط الخلافة العباسية الإسلامية ولو دون ثمن، فما بالك لو كانت هناك وعود فخمة بمناصب وسيطرة وأموال.. ومَنِ الذي يَعِدُ؟ إنه «هولاكو» سيد الموقف في كل المنطقة.

وعاد المبعوثان الساميان من عند هولاكو إلى الخليفة يحملان له طلبًا عجيبًا من الزعيم التتري.. لقد سمع هولاكو بأمر المسلمين المتشددين «المتطرفين» في داخل بغداد، والذين ينادون بشيء خطير.. ينادون «بالجهاد».. هذه الدعوة إلى الجهاد ستنسف كل مباحثات «السلام».. فعلى خليفة المسلمين أن يسلم إلى هولاكو رءوس الحركة الإسلامية في بغداد.. وعليه أن يسلم - على وجه التحديد - «مجاهد الدين أيبك» و«سليمان شاه» اللذين كانا يتزعمان فكرة الجهاد والمقاومة[5].

وهنا تتضارب الروايات.. ولا ندري إن كان سلَّمهما فعلاً أم لم يسلمهما؛ لكن وضح للجميع الغرض التتري، ووضحت رغبة أعداء الإسلام دائمًا في قمع أي دعوة للمقاومة باسم الدين.

الموقف يزداد صعوبة.. والأزمة تزداد شدَّة.

والرسل لا تنقطع بين هولاكو والخليفة.

والرسل طبعًا هم أهل الثقة عند الخليفة: «مؤيد الدين العلقمي الشيعي»، والبطريرك النصراني «ماكيكا»!

وجاءت نتائج المفاوضات «مرضية جدًّا» كما صوَّر ابن العلقمي للخليفة؛ فلقد جاء ابن العلقمي ببعض الوعود من هولاكو، واعتبر هذه الوعود نصرًا سياسيًّا كبيرًا، وفي الوقت نفسه كانت هناك بعض الشروط «البسيطة» التي على الخليفة أن يُنَفِّذَها.

أما الوعود فكانت:

1- إنهاء حالة الحرب بين الدولتين وإقامة علاقة سلام دائم.

2- يتم الزواج بين ابنة هولاكو الزعيم التتري الذي سفك دماء مئات الآلاف من المسلمين بابن الخليفة المسلم «المستعصم بالله».

3- يبقى «المستعصم بالله» على كرسي الحكم.

4- يعطي الأمان لأهل بغداد جميعًا.

هذه هي الوعود، على أن تكون هذه الوعود في مقابل الشروط الآتية:

1- تدمير الحصون العراقية.

2- ردم الخنادق.

3- تسليم الأسلحة.

4- الموافقة على أن يكون حكم بغداد تحت رعاية أو مراقبة تترية[6].

وختم هولاكو مباحثاته مع المبعوثين الساميين بأنه ما جاء إلى هذه البلاد إلا لإرساء قواعد العدل والحرية والأمان.. وبمجرد أن تستقر هذه الأمور -وفق الرؤية التترية- فإنه سيعود إلى بلاده، ويترك العراقيين يضعون دستورهم، ويُديرون شئون بلادهم بأنفسهم!

وتجدَّدت الآمال في نفس الخليفة!

هل يصدق هولاكو في وعوده؟!

إن هناك شكًّا كبيرًا في قلبه.

ثم إن الشروط قاسية جدًّا، فهو سيتخلَّص تقريبًا من كل إمكانية للمقاومة؛ ولكنه -على الجانب الآخر- قد يظل حاكمًا للبلاد؛ نعم تحت رعاية تترية.. أو تحت قهر تتري.. لكنه -في النهاية- سيظل جالسًا على كرسي الحكم، هذا طبعًا إن صدق هولاكو السفاح!

ولكن هذا احتلال! أيقبل به؟

ولماذا لا يقبل به؟! إن مقربيه يقولون له: إن هذا في السياسة يسمونه: «واقعية»! وهو لو رفض التسليم، وفتحت أبواب بغداد بالقوَّة فإنه حتمًا سيموت؛ أما إذا سلم نفسه إلى هولاكو السفاح فهناك احتمال -ولو بسيط- للنجاة بالروح!

نعم سيعيش ذليلاً.. ولكنه في النهاية قد يعيش.

نعم سيعيش وضيعًا.. لكنه في النهاية قد يعيش.

نعم سيبيع كل شيء بثمن بخس.. لكنه في النهاية قد يعيش.

الخليفة ما زال متردِّدًا.

والشعب الضخم من ورائه يعيش التردُّد نفسه.

نداء الجهاد لا ينبعث إلا من بعض الأفواه القليلة جدًّا؛ أما عامَّة الناس فقد انخلعت قلوبهم لحصار التتار.

لقد عظمت الدنيا جدًّا في عيونهم فاستحال في تقديرهم أن يضحُّوا بها.

لقد كثر الخبث -فعلاً- في بغداد.. وإذا كثر الخبث فالهلكة قريبة جدًّا!

واحتاج الخليفة لبعض الوقت للتفكير.. فالقرار صعب جدًّا.. ويحتاج إلى الاستشارة وقد يستخير! لكن -على الناحية الأخرى- فإن هولاكو ليس عنده وقت يضيعه.. لأن الجيوش التترية الرابضة حول بغداد تتكلف كل يوم آلاف الدنانير، والحصار في شهر المحرم سنة 656 هجرية، وهذا يوافق شهر يناير من سنة 1258 ميلادية، والجو شديد البرودة، هذا فوق أنه يتشوق لرؤية بغداد الجميلة من الداخل!

فهل سينتظر رد الخليفة، هذا ما سنتعرف عليه في المقالة القادمة.
___________
د.راغب السرجاني
[1] قطب اليونيني: ذيل مرآة الزمان 1/88.
[2] ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 7/49.
[3] المرجع السابق.
[4] بسام العسلي: المظفر قطز ومعركة عين جالوت ص105.
[5] ابن كثير: البداية والنهاية 13/ 234..
[6] قطب الونيني: ذيل مرآة الزمان 1/88.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الجراد_القاتل_التتار الجزء الثالث

أهم صفات الخوارج التي ذكرها النبي ﷺ

حصار عكا 1799